ثم بعد فترة عرف ابن جبرين حقيقة هذه الفئة , بعد أن تواصل معه عدد من كبار العلماء الذين عروهم من قديم , وعرف أنهم يتلبسون باسم الحقوق ليصلوا لمآرب أخرى , ففاجأ الناس بخطاب كتبه بخط يده , كما هي عادته في خطاباته وفتاواه التي لا يقبل أن يصوغها أحد له , نشر تبرؤه من هذه المجموعة بكل وضوح وبدون لبس وغموض , وأعلن عدم تأييده لهم ولمنهجهم , وذكر أن الخير والصلاح في جمع الكلمة , ولم الشمل , وأن التفرق مذموم في الشريعة , ومنهج الإصلاح ليس فيه تأليب على انفلات الأمن , ولا دعوة للخروج على النظام العام , وليس فيه تهيج لعواطف العامة واستغلال سذاجتهم وسطحية تفكيرهم , ولا تلبيس وتدليس للحقائق وكتم الحسنات وإظهار السيئات .
شجاعته في التبرؤ منهم أذهلت الناس , فهو بهذا يخالف سذاجة العامة وبساطة تفكيرهم , وكثير من أصحاب الأقلام الصحفية يحاول أن يكسب التيار المعارض ولو كان على الباطل والجهل , والحق أن العالم الرباني هو الذي يقول الكلمة بناء على ما ترجح له , ليس بناء على ضغط طلابه وجمهوره , ولذلك كان بيانه في تلك الفترة من علامات قوته وشجاعته في قول ما يعتقد هو , وعدم قبوله للفكر الهمجي الغوغائي .
من مواقفه الخالدة موقفه في الدفاع عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفاع عن أعراض أمهات المؤمنين , لقد سطر على صفحات المجد أروع القصص في الذب عن أعراض الأبرار الأتقياء , وجاءه من الأذى ما لو وزع على جموع كثيرة لأتعبهم , حرصه على العقيدة والتوحيد أكثر من حرصه على جمع حطام الدنيا والسعي خلف بهارجها ومناصبها , لم يحسن بعض الجهلة التعامل مع مواقفه هذه , وشنعوا عليه وعليها , ولكنه قال وكتب ما يكون شامة في جبين الأمة التي ضرب الذل والهوان على أكثرها .
ابن جبرين لازال شوكة في حلوق طوائف من أهل البدع والخرافة , وخاصة الرافضة الذين يشتمون الصحابة ويكفرون أمهات المؤمنين ويطعنون في الرسالة الخالدة وقرآنها وحملتها , ويتمسحون بقبور الأولياء ويدعون سادتهم عند الملمات وينسون فاطر الأرض والسموات .
فتاواه فيهم مصدرها الكتاب والسنة , وهدفها حماية المجتمع المسلم من الاغترار بالشعارات البراقة ونسيان العقائد المنحرفة , كان موفقاً وحكيماً وشجاعاً في مواقفه , فكم من رسالة جامعية لم تؤثر فيهم , وكم من مؤتمر عام للتنديد بجرائمهم لم يظهر أثره عليهم , وكم من خطبة ومحاضرة تكلمت عنهم لم تجد طريقها للناس .
ولكن قصاصة من كلام من ابن جبرين أو خطبة منه قلبت الدنيا ظهراً على عقب , وتلقفتها القنوات الإخبارية مباشرة , وسعت الصحافة لإبرازها والحديث عنها فالمتحدث هو العالم الجليل وبطل الرياض العظيم .
كلامه عنهم طار في الشرق والغرب وأصبح تاريخاً لوحده , كما فعلت فيهم يوماً من الأيام خطبة إمام المسجد النبوي الشيخ علي الحذيفي , لقد تعالت صيحات الرافضة مطالبة النصارى بمحاكمة ابن جبرين !! , تعالت صيحاتهم المشبوهة مطالبة بمحاسبته علناً وهو طريح الفراش يصارع المرض لا يدري عن نفسه , فهل رأيت مريضاً يهابه ملايين الأصحاء في الأبدان!!, فصحة العقل والدين لا يعدلها صحة وقوة , ومرض العقل والدين لا يصلح معه شيء آخر.
ابن جبرين رغم فتاواه في الرافضة قد بين مراراً للطلاب والناس مغزى الفتاوى , فبيان الحق لا يعني استحلال الدماء وخلخلة الأمن , ففرق بين البيان العلمي وحماية عقول الناشئة والعامة , وبين القتل والتدمير وإزهاق الأرواح .
وهذا حق وعقل , ومتى اجتمع الحق والعقل الرشيد صلحت البلدان وعمرت الأوطان وحميت الأديان , وإذا نظرنا كيف أن الله أمر بجهاد المنافقين , وأمر بالغلظة عليهم , وهذا الأمر بجهادهم جاء في أكثر موضع , ولم يكن أمراً للندب بل هو للوجوب , ومع ذلك لم يأمر الله بقتلهم , ولم يأمر الله بزعزعة الأمن في المدينة النبوية التي كثر فيها المنافقون في عصر النبوة , وقد تَرَك النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم تقديراً لشعور الناس العام وحتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه .
وكان النص القرآني يفضحهم ويفضح مخططاتهم , ويُشِّهر بأعمالهم , ويتحدث عن صفاتهم وطريقة كلامهم , ولكن بقيت شخوص كثير منهم مجهولة لكثير من الصحابة , حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر نفراً يسيراً من الصحابة عن شخوص المنافقين وأسمائهم , وعاش الناس في ظل دولة إسلامية , تطبق شرع الله , وتقيم حدود الله , وهي تعلم أن من بين أبنائها ومن بين أعضائها شياطين في المكر والفساد والعناد .
وإذا كان هذا حال القرآن مع المنافقين فهكذا حال العلماء الربانيين مع أهل البدع , فهم يبينون للناس دين الله , ويفضحون المخططات ويجهزون عليها , يقولون الحق بدون مواربة أو ضبابية أو غموض وتلبيس , فدين الله له رجال يحمونه , وله رجال يذودون عن حياضه , ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين .
وكلام أهل العلم يجب أن يفهم على أنه للبيان والحقيقة , وليس استغلالاً لواقع سياسي أو مطمع دنيوي , وأعمال الجُهال لا يلام عليها العلماء , وإلا لحذفنا آيات العداوة من المصحف مع اليهود والنصارى حتى نجامل اليوم الغرب ونسير في ركاب حضارتهم .
******************
الرحالة الكبير في جبال وصحراء المملكة :
الحق الذي لا مرية فيه أنه بعد وفاة شيخه ابن باز أصبح عالم الرياض الأكبر , ومفتي الناس , ومعلم الناس الخير , الشيخ الذي يتترس الشباب الأقوياء بفتاواه ومواقفه ويكون أولهم في الصف , صاحب الرحلات الصيفية الوعظية والإرشادية الطويلة جداً .
تراه وهو شيخ كبير تتناوشه الأمراض , يسافر في كل صيف يطوف المملكة من شرقها إلى غربها , ومن الجنوب إلى الشمال , يقطع الآف الكيلومترات , يبحث عن الناس في المدن , أو في البوادي , يبحث عنهم في مدينة عالمية , أو قرية ساحلية , أو مجموعة تعيش في الجبال بعيداً عن الحضارة , لا يهمه ذلك , المهم أنه سيجد بشراً يتحدث معهم , سيجد أقواماً يرشدهم إلى الله, سيجد أناساً يسألونه فيجيب .
يجلس بين الناس بكل حب وود ونقاء , يبين لهم أحكام الشريعة بوضوح ويسر , يراعي ظروفهم , ويتكلم بما يناسب عقولهم , يتكلم ولا يمل هو من الحديث المكرر فهو يتكلم في هذه القرية , ويعيد الموضوع عند جارتها , وهكذا بدون ملل , ربما شرح لهم كتاباً وأقام أياماً , وربما عقد لهم دورة علمية مكثفة كل سنة , يكتب لهم التزكيات والتوصيات , ويزور مشاريعهم الخيرية ويجلس مع أعضائها , ويلتقي بالقضاة وطلبة العلم والدعاة الذين يحرصون أن يروه ويجلسون معه , مع أنه لا يحمل صفة رسمية للزيارة , بل يسبق زيارته أحياناً تنسيق مع رجال الدعوة هناك , لا يدخل قصور المسئولين والأمراء في المناطق إلا نادراً , تراه يسكن في منزل متواضع أو فندق عادي , يظنه الإنسان يستعجل نشاطه قبل عجزه , ويمارس رياضة مع روحه وجسده ليرتقي بها للكمالات .
وكل هذا يفعله بدون مقابل مالي أو تكليف رسمي , والأعجب أنه يسافر بدون أن يتنقل في طائرة ليس لأنه يحرمها , بل لأنها لن تدخل القرى والبوادي التي يريدها , فهو يتنقل بسيارته في لهيب الحرّ حيث صيف الجزيرة العربية اللافح , يتنقل مع رفقة من طلابه , تارة في مدينة جبلية أو في مدينة ساحلية , من مكة إلى جدة والطائف والباحة وأبها , ثم تراه يسافر إلى الساحل الشرقي لدورة علمية مكثفة , ثم يعود إلى المدن النجدية القائمة على الصحاري اللاهبة , ثم شمال الجزيرة مروراً بالمسجد النبوي , ويستمر في الرحلة قرابة الشهرين من كل عام , وهو قد جاوز السبعين من عمره .
ولقد حدثني عدد كبير من الدعاة عن القرى النائية التي دخلها , ولقد رأيته بنفسي أيضاً يدخل مناطق وقرى بعيدة عن مواطن التجارة والمطارات والأسواق , وهذه القرى لم يزرها داعية بحجم أحد من طلابه فكيف بمثله , فتراه بين الجبال في قرى تهامة , وفي سهول الأودية , وفي قرى الشمال حيث الصحراء , وهو في غاية النشاط والحرص على التعليم .
يتغير رفقائه في الرحلة أحياناً , فمن ذا الذي يستطيع أن يصمد كما يصمد ؟ , ومن ذا الذي يتحمل ويطيق ما يتحمل ؟ .
إنه يحمل قلباً نقياً , قلباً ينبض بحب الإسلام , قلباً لم يزل يحب الناس ويأنس بهم , قلباً يحب الإرشاد والوعظ والتعليم ونفع الناس , إنه يبحث عن الناس ولا يكتفي بمجرد الكلام , يبحث عنهم في المساجد والتجمعات .
حدثني أحد خواص طلابه ممن يعمل مدرساً في إحدى الجامعات قائلاً :
قررت يوماً أن أصحبه في محاضرة خارج الرياض بمائة وخمسين كيلاً , فاتفقت مع سائقه الذي هو من طلابه عادة , فصليت العصر مع الشيخ في المسجد يوم الأربعاء , فألقى درسه في الفرائض وشرح الرحبية , ثم انطلقنا قبل المغرب وصلينا قي أطراف الرياض , ولازلنا نسير وهو يملأ السيارة علماً وحكمة حيث كنا اثنان معه فقط , وربما سمع شريطاً لبعض محاضرات طلابه أو من في مستواهم , يقول تلميذه هذا ثم استأذنته في قراءة قطعة من كتاب زاد المستقنع , فأذن لي , فكان يشرح لي كما يشرح في المسجد أو سع , وكنت أناقشه في كل مسألة , وهو لا يتململ من ذلك بل يفرح بذلك , فلما قارب وقت العشاء وصلنا للمدينة التي سيلقي فيها المحاضرة وكانت بعد العشاء , فألقى محاضرته وهو في غاية النشاط والقوة , يقول محدثنا فغلبني النعاس من وعثاء السفر , ولكني تمالكت نفسي , ثم انطلقنا بعد المحاضرة لمناسبة دعي إليها في هذه المدينة , فحضرها وألقى عليهم بعض النصائح والمواعظ , وأجاب على أسئلتهم , وفوجئت أن المحاضرة كانت عبارة عن درس شهري يلقيه عليهم من سنين بانتظام .