تحول ذلك القروي لأشهر أبطال العاصمة , فهو غاية في البساطة والتواضع في الحديث مع الجلساء , وغير معقد في صفة الجلوس حيث يترك نفسه على سجيتها القروية , فيحترم الجليس ويقوم للغريب ولا يمل المرء من مجالسته اللطيفة , وهو سهل في مواعيد الزيارة والحياة الاجتماعية, وفوق كل هذا هو في القمة من العلم الواسع المتخصص والثقافة التي يعجب المرء من تنوعها في صدره , ولديه من الشجاعة والقوة ما يبهر أبناء المدن وسكان العواصم الذين أحبوا الحياة وبهرجها, وهو من أقدر الناس على التعامل مع الحضارة الحديثة , ولديه القدرة على فهم أبعادها وحاجة الناس إليها , فلم يتقوقع حول نفسه , أو ينكمش مع الماضي الجميل الذي أدركه .
تفوق دراسياً على زملائه , وترقى في شهادات التعليم النظامي , وحصل على شهادة الدكتوراة التي تفخر به ولا يفخر بها عادة , حصل عليها بعد أن قارب عمره الستين سنة , وذلك في حوالي عام (1407) , تقدم بها في مجلدات كثيرة , وهي في تخريج أحاديث كتاب وتحقيقه , وهو شرح الزركشي على مختصر الخرقي , لم تكن الشهادة ذات قيمة علمية له آنذاك , ولكنه ساير الحضارة ولم ينقطع عنها , ولم تكن هذه الشهادة لتهبه منصبا جديداً , أو سلماً وظيفياً عالياً فقد بلغ سن التقاعد أو قاربه.
لم يعاتب نفسه بقوله إني بدأت في الدراسة النظامية بعد أن بلغت الخامسة والعشرين فماذا تفيدني هذه الشهادات , لم تراوده نفسه أنه نشأ بين بيئة علمية تقليدية لاتقدر هذه الشهادات وحملتها , لم يفكر أن مشايخه لم يحصلوا على شهادة رسمية ولو صغيرة , ولكنّ نفسه طامحة للسمو والعلو وهاهو البطل اليوم يصبح عصرياً , بدأ من الكتابة على الألواح في كتاتيب القرية , ودرس في التعليم النظامي بعد أن كبر سنه , وناقش رسالته ولحيته بيضاء ناصعة , ناقشها وطلابه هم دكاترة الجامعات وعمداء الكليات , ولم يرهبه هذا فأحب أن يمارس هوايته العلمية , أحب أن يمشي في ركاب الحضارة ويكسر التقاليد والأعراف , فعاش عمره بين النخل والماء وبيوت الطين ولازال يحب تلك الحياة ويألفها , وعاش بين المدن والطائرات والبنايات الضخمة .
إنه مذهل حقاً فقد جمع بين الأصالة والمعاصرة , بين القلب القروي والعقل الحضري .
******************
منزله ومناصبه الزهيدة :
لم يأبه للمناصب الرسمية , وكثير من الناس يصفونه بمناصب تَشرفُ به, وينعتونه بها من حسن ظنهم بنزاهة المناصب ومن يتولاها , لكنه لم يعين فيها أصلاً , بل ليس له منصب رفيع إلا في قلوب الناس , فهو خطيب لجامع عادي في الرياض , وعضو إفتاء متقاعد فقط , هكذا بدون زيادة , شغل منصب معلم في معهد في الرياض سنين طوال , وهذا المعهد إنما تعادل شهادته الثانوية , ونقلت خدماته للجامعة على كبر سنه , فلم يمكث فيها إلا بضع سنين .
ثم طلبه شيخه ابن باز ليكون معه في رئاسة الإفتاء بمرتبة مفتٍ يرد على الهاتف ويجيب على الأسئلة الشفهية ويراجع البحوث قبل نشرها بمجلة الإفتاء , لم يكن ذا منصب رسمي كبير في رئاسة الإفتاء مثل بقية الشيوخ , ولكنه إذا دخل مكتبه تقاطر الناس عليه كما يتقاطرون على مواقع الربيع والخير , فكان هو زينة للمنصب , وبقي رفيع الجاه والمكانة عند الناس .
هذا هو ابن جبرين رجل يملأ سمع وبصر طلبة العلم في الخليج قاطبة , يتشرف طلبة العلم بجلسة معه , يفخرون بسؤاله مباشرة , وهو يحبهم ويودهم ولا يأبه بدنياهم , وما ازداد إلا حباً في قلوب الناس , وما أزداد إلا تواضعاً , فهو طيب القلب , وادع في تعامله , حنون على أمته وأبنائها.
هاهو يبحث عن اليتيم والأرملة ,كما يبحث المزارع عن شجرة يحبها فينظر هل تحتاج لعناية فيصلحها , يقضي سحابة نهاره مع الشعب , يمسح دمعة هذا , ويشفع في حال ذاك , يجمع تبرعات لتلك الأسرة الفقيرة , يسدد فاتورة الكهرباء لذلك العجوز الذي لم يجد معيناً وأنيساً , يسمع الأخبار عن أحوال المضطهدين والمشردين في العالم , يبكي ويحزن ويتألم لمصاب ابن آدم على هذا الكوكب الصغير .
في بداية الأمر سكن الرياض في أول قدومه في بيوت الطين وبقي فيها دهراً طويلاً , ثم بنى بيتاً في حي من أحياء المدينة الممتدة وبيته الجديد في الرياض لم يبنه إلا بعد أن زاد عمره على الخمسين , يقع المنزل في منطقة عادية وحي يسكنه عامة الناس , وكان مبلغ بنائه للمنزل عبارة عن قرض من صندوق للإقراض العقاري الحكومي في المملكة بدون فوائد ربوية .
فهو مثل بقية عباد الله من أواسط الشعب ذوي الدخول المحدودة رغم شهرته وسمعته , يقترض من الصناديق العامة , ويسدد من حسابه كل شهر , ولو أراد أن يتاجر بكتبه أو يرتزق من محاضراته ودروسه لفعل ولغنم أي غنيمة ,لم يهرب من الدنيا ويرفضها , ولكنه لم يركض ويلهث ورائها , ومع ذلك جاءته الدنيا صاغرة فركلها بقدميه , وآثر ما عند الله فعاش سعيداً محبوباً من الناس .
******************
أبطال من الصحراء :
نخوته ونجدته أصبحت حديث الناس , فهو يتكلم بصوت مسموع إذا عجز العلماء عن النطق , ويتحرك إذا قعدت بهم نفوسهم عن الحركة , يصارع الحياة ويغالب الوقائع , يراه المرء في مواقف الكرامة التي يخشى الشاب على نفسه من الولوج فيها .
لا يرضى بأن تؤذى حمامة فكيف بأن يؤذى مسلم , وأعظم من ذلك في نظره أن يكون الذي لحقه الأذى عالماً مخلصاً , أو شاباً أوذي من أجل دينه وعقيدته , فيراه الناس جميعاً يحرص أن يكون أول الزوار له , والمناصرين له , لا يبالي بكلام الناقمين , ولا يلتفت لغضب الغاضبين ممن جرفتهم الأهواء , أو خشوا أن يؤثر ذلك على مكانتهم الدنيوية أو مناصبهم الرسمية .
عرفه طلبة العلم في المواقف الصعبة , فهو لا يتحدث إذا وجد من يكفيه في الحديث فهو لا يتكلم لمجرد أن يقال تكلم فلان, وهو لا يشارك الغوغاء صخبهم سواء كانوا من المنتسبين للعلم أو جهلة الناس , ولكنه إذا رأى أن العجز والضعف دب لقلوب الخاصة , وخشي أن لا يقوم بالحق قائم , تراه وقد قام من بين الصفوف ليكون فيصلاً وناطقاً يحمده التاريخ , فهو يَسترُ عنا سوءة الضعف والخور التي رافقت المسلمين في عصورهم المتأخرة .
في مواقفه تلك يحرص ألا يؤذي هذا ولا ذاك , فهو لا يَمدُّ لسانه لشتم أحد أو التنقص من أحد, بل يعمل في صمت وخلق رفيع , ويحمل في قلبه صدق العربي القروي الذي يعامل الناس بصفاء سريرة ومودة ومحبة , ولذلك زرع محبته في قلوب الحكام والمحكومين , فهو طراز فريد اجتمعت فيه غيرة المؤمن وإباء وعزة العربي الصميم .
يحافظ على الأمن الفكري والأمن الحسي , لا يشوش على الناس حياتهم , ولا يحث على زعزعة الأمن , ولا يقبل أن يشوه الدين , يقف بحكمة وروعة دائماً , ولو جمعت مواقفه في ذلك لكانت شيئاً عجباً يستفيد منها الجيل بعد الجيل .
من مواقفه التي أوذي فيها وخرج ناصعاً نقياً , موقفه من طائفة من المنادين بشعارات ظاهرها الرحمة وباطنها الخداع والتمويه .
فقد فصل من عمله الرسمي بسبب جمعية تأسست باسم الدفاع عن الحقوق , وليس لها من اسمها نصيب , جاء أصحابها إليه فأيدهم شفهياً , كما يبارك ويؤيد كثيراً من أصحاب المشاريع , فأوهموا العامة أن من زعمائهم ابن جبرين , كانت هذه الوقائع والأحداث بعد حرب الخليج التي احتل فيها العراقيون الكويت بسنتين وذلك عام (1413) .
فثارت عليه الصحف ليس من باب كرهها في المعارضة , ولكن لأنه عالم شرعي ديني ورغبة في إقصائه , وإلا فمنهج عدد من الكتاب في الصحافة العربية فيه لوثة كبيرة , وعدد منهم ينتمي لتيارات فكرية هدامة ويعلن ذلك في كل محفل , ومع كل تلك المخازي لعدد من كتاب الصحف لم تتحدث الصحافة عن أصحابها , ولم تزمجر في وجه أصحابها بالويل والثبور وعظائم الأمور كما هي عادتها إذا كان الخصم يمثل الإسلام , وعندما قامت الحملة الشرسة عليه لم يحاول ابن جبرين إثارة الرأي العام ولا الانتصار لنفسه , ولم يشتم أحداً أو يؤذي أحداً , فهو لم يتعود على الانتصار لنفسه , وإنما هدفه دائماً نصرة الإسلام .